كيف ستتغير الحكومات بعد انقضاء أزمة كوفيد-19؟

بقلم هدى الهاشمي ويوها لبانين وجيف مولغان وماركوس بنتوري


أدرك العالم بأكمله بأنه أمام أزمة عالمية قد تكون الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية. إلا أن الأزمات في معظمها تحفّز على التغيير، فقد أدت الثورة الفرنسية إلى تراجع المَلَكية المطلقة واستبدلتها بالجمهوريات والأنظمة الديمقراطية الليبرالية، وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية إلا وقد نشأت هيئات مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

وبالعودة إلى الأزمة الحالية، نجد بأن الحكومات اتخذت إجراءات عدّة للتخفيف من آثار الأزمة، ولكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن أي من هذه الحكومات لم تكن مستعدة. والسؤال الأهم هنا، كيف ستغيّر هذه الأزمة العالمية طريقة عمل الحكومات في المستقبل؟

طرحنا هذا السؤال على مجموعة من الخبراء الرائدين حول العالم الذين سيحدثوننا عن تغيير محدد سيطرأ على الحكومات نتيجةً لكوفيد-19.

يجدر الذكر أن جميع المساهمين في هذا المقال هم من أعضاء مجلس الابتكار العالمي.

الدور الثمين للمرونة وسرعة الاستجابة في العمل الحكومي 
بقلم هدى الهاشمي

لا شك بأن تفشي كوفيد-19 تعد أزمة لها ثقلها التاريخي وما يزال العالم في مواجهتها، وما زالت حكومات العالم تستجيب لها بإطلاق إجراءات وسياسات جديدة ومتنوعة لم تكن في الحسبان في بداية العام. إلا أن الحكومات اتبعت منهجيات مختلفة لمواجهة الفيروس وتبعاته الاقتصادية وهو أمر شهدناه عالمياً. وبينما تأخر بعضها في الاستجابة على عدة جبهات، كانت حكومات أخرى أكثر استعدادًا للاستجابة بفعالية واتخاذ قرارات مبتكرة وحاسمة. وفي ضوء الأوضاع الصحية والاقتصادية الراهنة، اتّجهت المجتمعات إلى اتباع التدابير والإجراءات التي تفرضها الحكومات.
جرى العرف على أن يتوقع أفراد المجتمع المزيد من حكوماتهم، سواء في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية أو المساعدات الاقتصادية، وعليه فإننا نتوقع تحولًا جذريًا يتطلب إعادة النظر في وظائف الحكومة وكيفية عملها وتقديمها للخدمات. كما تسعى الحكومات جاهدةً لإيجاد سبل مبتكرة وسريعة لإعداد وتنفيذ السياسات الحكومية وإيصالها للأفراد.
من جهة أخرى، ينبغي على الحكومات أن تكون أكثر مرونة لتواكب الواقع سريع التغير وأن تبقى مستعدةً لمواجهة أي ظروف مستقبلية. وعلى الجهات الحكومية أن تضع أهدافًا لتصبح أكثر تكيفًا وديناميكية واستجابةً للتبعات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية والمستقبلية مع تحفيز ثقافة تتمحور حول الفرد وتستجيب لاحتياجاته.
ويمكن تسريع عملية تحقيق المرونة وسرعة الاستجابة في جميع مستويات الحكومة ودمجها في القيادة والثقافة والأنظمة والممارسات ضمن الجهات الحكومية. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، كنا سباقين في طرح المرونة وسرعة الاستجابة كمبدأ أساسي لجميع وظائف الحكومة مما يسمح لها بالتطور المستمر وتعزيز مبادئ الشفافية والبساطة في اجراءات العمل. وقد برزت أهمية ذلك في المرحلة الأولى من تفشي كوفيد-19، حيث تمكنت الحكومة الاتحادية من الاعتماد على 2400 خدمة حكومية إلكترونية متوفرة لضمان الانتقال السريع والسلس لنمط الحياة الجديد. علاوةً على ذلك، سارعنا إلى تبني سياسات جديدة لتجاوز تحديات مختلفة في جميع القطاعات.  ولعلّ أهم الخطوات التي اتخذناها مؤخرًا عقد اجتماع قادة حكوميون وخبراء عالميين في اجتماع افتراضي مدته 3 أيام لتطوير استراتيجية خاصة بمرحلة ما بعد كوفيد-19 تمس قطاعات متنوعة منها الاقتصاد والتكنولوجيا والرعاية الاجتماعية والصحية والتعليم والأمن الغذائي وغيرها. كل هذه الإجراءات المتبعة كانت كفيلة لخروجنا من الأزمة أقوى ولتحقيق هدفنا بأن نصبح حكومة مرنة وسريعة الاستجابة بكل معنى الكلمة.
تتّسم الحكومات المرنة بكونها سريعة الاستجابة وأكثر استعدادًا لتطبيق الحلول المبتكرة للتعامل مع مجموعة من التحديات في مجال إعداد السياسات والأنظمة وتقديم الخدمات. كما تكون قادرة على اقتناص الفرص المستجدة لإحداث التغيرات الإيجابية وتحقيق نتائج أفضل في الأهداف طويلة وقصيرة المدى. وتتضح أهمية هذه المبادئ أكثر من أي وقت مضى لا سيما مع مواجهة الحكومات لتحديات اقتصادية وصحية متداخلة. فلا يمكننا بعد الآن أن نضع ثقتنا بمبادئ الحوكمة القديمة.
في هذه المرحلة التي تعزم فيها الدول إلى تحقيق أهداف وطنية طموحة وفي ظل التحديات التي تسود العالم، على الحكومات أن تجيد التوازن بين التحول والاستقرار للوصول إلى مرحلة التكيف المرجوة. فالحكومة المرنة حقًا هي التي تتفوق في تحقيق هذا التوازن.

تجاوز الأزمة لإحداث التغيير المطلوب
بقلم ماركوس بنتوري
تتحدى أزمة كوفيد-19 بعضًا من افتراضاتنا الأساسية حول طبيعة مجتمعاتنا وتضعنا أمام تنازلات كبيرة يصعب علينا تقبلها. بينما تواجه الحكومات خيارات صعبة في مجال السياسات وتستجيب للأوضاع الراهنة على نحو لم تعهده من قبل. 
وفي خضم هذه الأزمة، هناك جانب إيجابي لها يتمثل في اتساع المساحة الممنوحة للابتكار ضمن القطاع الحكومي وهذا يمهد الطريق أمام موجة من التغيير. ويمكننا القول أن توسع وتسريع عملية تقديم الخدمات الرقمية هو الجانب الأكثر وضوحًا من هذه التوجهات، بينما نشهد تقدمًا في التعامل مع قضايا أخرى كالعمل عن بعد والسياسات التنظيمية.
جميعنا نعلم أن عملية الإصلاح ليست بالأمر السهل وأن الأزمات، رغم تبعاتها، تتيح مساحة وفرصًا لتحقيق التغيير. وبمعنى آخر، تمثل الأزمة "قوة خارجية" تدفعنا لتقبل التغيير الذي يتجاوز الحدود الضرورية.
والسؤال هنا، ماذا سيحصل بعد انقضاء الأزمة؟ وكيف سنضمن أن التقدم الذي أحرزناه لن يفقد أثره، والأهم من ذلك، كيف لنا أن نضمن استمرار توسع الابتكار في القطاع الحكومي؟
ستبدأ حكومات كثيرة بإلقاء نظرة عن كثب على "محركات التغيير" لديها. وفي الوقت الذي تستجيب فيه الحكومات لكوفيد-19، أصبحت الفوائد المترتبة على تغيير آلية عملها واضحةً جدًا. ففي نيوزلندا على سبيل المثال، برزت فرصة هامة للخروج بحلول مبتكرة تخص وضع الميزانية الخاصة بالرعاية الاجتماعية استجابةً لكوفيد-19. والنقطة المشتركة بين هذه المبادرات المبتكرة هي أنها تتطلب تجاوز شعار الكفاءة السطحي والمضلل. إذ يتطلب الابتكار في العمل الحكومي التنبؤ بالمستجدات استعدادًا للأزمة الجديدة وتحديد ما إن كانت المنهجيات والأساليب الجديدة تستحق الوقت الذي سيخصص لها. 
أثبتت هذه الأزمة الآراء القائلة بأن الحكومات قادرة على تأدية مهامها بطريقة مختلفة إذا لزم الأمر، بينما يكمن التحدي في التأكد من أنها لا تزال "قادرة ولديها الإرادة" عندما تنتهي هذه الأزمة.

أزمة كوفيد-19 بوصفها فرصة تدريبية للحكومات
يوها لبانين

إذا عدنا بالزمن، سنلاحظ أن دور الحكومات كان يتوسع بدلًا من أن يتقلص في أعقاب الأزمات العالمية. فقد شهدنا نشوء العديد من أهم الجهات الحكومية لتكون حلًا مباشرًا أو غير مباشر أو نتيجة لأزمة مجتمعية واسعة النطاق وذلك عندما كانت الثقة في قدرة الحكومة على القيادة في ظل التحديات أعلى من المعتاد، وأزمة كوفيد-19 ليست استثناءً على الإطلاق.

فعندما نعود لنمط حياتنا الجديد بعد كوفيد-19، سنجد أنفسنا أمام تحدٍ أكبر لا يمكن السيطرة عليه ويشمل قطاعات متداخلة. ولكن إيجاد الحلول للتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها يحتم علينا تبني نهج استباقي وتولي الحكومات حول العالم دِفة القيادة منطلقةً من رؤية واضحة. ويمكن أن تمثل أزمة كوفيد-19 فرصة تدريبية ممتازة.

برزت خلال هذه الأزمة الكثير من قصص النجاح لحكومات تولت قيادة دولها واستخدمت كافة إمكانياتها الاقتصادية لتمويل الأنشطة الأساسية للمجتمعات والاستفادة من المعلومات والحرص على التقدم حتى في أوقات يسودها عدم اليقين. كما شهدنا إطلاق الكثير من حزم الدعم والتحفيز الاقتصادي خلال فترة قصيرة من الوقت في الكثير من دول العالم، ولاحظنا أن الحكومات بدأت تستثمر في حلول جديدة وجذرية للحفاظ على رفاه المجتمعات. وهناك دول مثل بنغلادش التي اكتشفت طرقًا جديدة للتعاون بين القطاعات لتقديم الخدمات الطارئة لملايين السكان. أما إسبانيا فإنها تعيد النظر في سياسات الدخل الأساسي التي تتبعها لتواكب الحاجة المتزايدة للدعم المالي. وجميع هذه الأمور وغيرها تلعب دورًا هامًا في إنجاح حكومات القرن الحادي والعشرين.

ولنكون قادرين على مواجهة الأزمات القادمة، على الحكومات أن تتولى مهمة التشكيل الفاعل لمستقبل المجتمعات على غرار ما فعلته خلال أزمة كوفيد-19. فلم يعد الدور التمكيني على هامش التغيير للحكومات كافيًا بعد الآن؛ بل يجب أن يتضمن دورها التوجيه الفاعل أيضًا، ويشمل ذلك على سبيل المثال ابتكار آليات جديدة في مجال التمويل الحكومي أو تجربة سياسات جديدة. فعلى الحكومات الناجحة أن تستثمر في السياسات التحويلية وتوفير الموارد الجديدة القادرة على تنفيذ هذه السياسات. وتتضمن هذه الموارد وضع منهجيات منظمة للحوكمة على المدى الطويل وتبني مبدأ المرونة ضمن أنظمة إعداد السياسات التي من شأنها أن تمكن التعلم المستمر والاستعداد للتخلص من العمليات التشغيلية المنفصلة عن بعضها بعضًا.

وضعت أزمة كوفيد-19 الحكومات في جميع أنحاء العالم تحت المجهر. وسواء سارت الأمور بشكل جيد أم العكس، فليس هناك طريق للخروج من تحت هذا المجهر لأنه ما زالت هناك أزمات مستقبلية قادمة. ولن يُكتب النجاح إلا للحكومات التي تتقبل دورها وتبادر لقيادة مجتمعاتها للخروج من هذه الأزمات المستجدة. وهنا تتوازى أهمية الثواب والعقاب والثقة والشرعية للجهات الحكومية، ورفاه عالمنا ومجتمعاتنا.

الاستفادة من الأزمة لإعادة تشكيل العمل الحكومي عبر الذكاء الجمعي 
بقلم جيف مولغان

قد تكون الأزمة الحالية مجرد مرحلة مؤقتة تعود بعدها الخدمات الاعتيادية لطبيعتها بعد انقضاء الفترة الأسوأ منها. ولكن يمكننا استخدام هذه الفترة لتسريع التغيرات التي طال انتظارها. سأركز في هذا المقال على تغيير واحد يتمثل في كيفية عمل الحكومات والتي أصبحت محط الأنظار إثر هذه الأزمة.
فعلى مدار العقود الماضية، أصبح من الواضح أن الحكومات بإمكانها إعادة تنظيم طريقة عملها عبر استخدام المزيد من البيانات وأن تعمل كمنصة تربط الأشخاص ببعضهم من جوانب عدة، إلا أن هذه الأفكار لم تنفذ. واستخدمت الكثير من الحكومات التقنيات الرقمية لتحسين الخدمات المقدمة للأفراد أو لغايات المراقبة؛ إلا أن القطاع الخاص قد شهد تحولًا جذريًا مع اعتماد الكثير من الشركات الكبرى في العالم على البيانات والمنصات بما يمثل نقلة نوعية ليس من الممكن مقارنتها مع القطاع الحكومي. ولكن أزمة كوفيد-19 قادرة على تغيير هذا الواقع. وذلك لأنها وجهت الاهتمام لأسلوب تفكير الحكومات وكيفية تسخيرها للتقنيات للتفكير والاستجابة بسرعة. بينما أكدت الخطوات التي اتخذتها الصين في بداية الأزمة (كالإنكار ومهاجمة المبلغين) على مخاطر تقييد تدفق المعلومات. ومنذ ذلك الحين، استخدمت مجموعة من الدول (بما فيها الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة) أساليب متقدمة للربط بين الفحوص ورصد المخالطين وإدارة أماكن الحجر الصحي.
لتحقيق ذلك، قامت تلك الدول بإنشاء ما يمكن تسميته بمجمعات الذكاء التي تمزج بين عمليات الرصد والتفسير والتنبؤ والإبداع. وبشكل أساسي، يمكننا القول أن مجمعات الذكاء تشبه أدمغتنا كونها تجمع جوانب متنوعة من الذكاء لدعم اتخاذ الإجراءات والتعلم منها. وتبرز الحاجة إلى مثل هذه المجمعات الآن أكثر من أي وقت مضى، وهي ليست ضرورية لإدارة الموجات الجديدة المحتملة من تفشي الفيروس فحسب وإنما نحتاجها للتعافي من هذه الأزمة.
جميعنا نأمل بأن تدفع هذه الأزمة الحكومات لتطبيق أساليب مشابهة في مواجهة تحديات أخرى. إذ تسمح هذه المجمعات بالتنبؤ بالتحديات وجمع الأفكار والمعلومات من مصادر مختلفة بشكل أفضل (هناك طفرة استثنائية للذكاء الجمعي في الكثير من الجوانب بدءًا من التفسير العلمي لكوفيد-19 والتي تشجع ملايين الأشخاص على المساهمة في حل التحديات أو تحسين الخدمات) وتسريع عملية التجربة والتعلم. وبينما تعتبر أزمة كوفيد-19 أزمة طارئة، من الممكن استخدام أساليب مشابهة لأزمات تتفاقم ببطء كتغير المناخ أو رعاية لكبار السن.
ويكمن التحدي الأكبر في غياب الفرق الحكومية التي تتمتع بالخبرة في هذا المجال أيضًا، فالكثير من الموظفين الحكوميين يتمسكون بأساليب عمل منعزلة عن بعضها تعود للقرن التاسع عشر. فهذه الهياكل التنظيمية والآليات والثقافات السائدة تعرقل الاستخدام الذكي لنماذج المنصات التي ظهرت في القرن الحادي والعشرين. ولكن علينا ألا نفوت الفرصة التي تقدمها لنا هذه الأزمة، لأننا نشهد كمًا هائلًا من الأفكار والإبداع والالتزام في الاستجابة لها حاليًا. ونأمل أن تستخدم بعضها في إعادة تشكيل الحكومات بطرق تجعلها أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات القادمة. 

اشترك في نشرتنا الإخبارية

سجّل لمتابعة أحدث المستجدات الصادرة عن مجلس الابتكار العالمي